fbpx

بين قطبي الاكتئاب | سلسلة الفيل

قبل سنوات.. كان كلُّ شيءٍ على ما يُرام، الحياة رتيبةٌ لكنها غير مُضجرة، كانت أمي بخير، وكنت فتاةً وحيدةً بين أشقائي الذكور، أما والدي فقد توفّى منذ فترةٍ طويلةٍ، وتولت أمي من بعده زمام الأمور بيدٍ من حديد، ثم عرفنا فجأةً بإصابتها بمرضٍ في الكبد، وأنها في مرحلةٍ مُتقدمةٍ جداً، وقع عليّ الخبر كالصّاعقة، كيف؟

   أخبرني الطّبيب -أيضًا- أن عليّ إجراء بعض التحاليل؛ للتحقق من أمر إصابتي مثلها من عدمه، لكنني كنت منشغلةً جدًا بها، ثم وقع ما كان يقبض قلبي، فقد ماتت أمي!

   بدا لي العالم غريبًا وموحشًا، صرت يتيمةً تمامًا، أقولها.. فأجهش بالبكاء، بم استطع تقبّل فقدها بسهولة؟ لا أحد يُمكنه تقبّل أمرٍ مُماثل، كيف يمكنني أن أعيش من دونها؟ كيف سوف تسير حياتي؟ وبعد وفاتها بفترةٍ بدأت الأمور في التدهور، ليس على صعيدٍ شخصيٍ فقط، ففي الوقت الذي كنت أحاول فيه أن أستوعب خسارة أمي بدأت تعمّ مظاهرات حاشدة في البلاد، انتبهت لنفسي وأنا في وسط مُظاهرةٍ برفقة بعض الصديقات، وقد كانت تلك هي المرة الأولى التي أنسى فيها ما بي، فهتفت بحرقة كأنما كنت أحاول تفريغ ما بي من غضب.

   وبينما يتغير مزاجي من يومٍ لآخر؛ تارةً حماسة، وتارةً غضب، وتارةً حزن، وتارةً سعادةٌ وإقبال على الحياة، كنت أتساءل.. هل نسيتُ أمي بهذه السرعة؟ ابتلعتني الدوامة حتى ألقي القبض عليّ، لم أمكث في الحجزِ إلا ثمانٍ وأربعين ساعة، لكنها كانت بالنسبة لي كثمانية وأربعين عامًا.

   خرجت كالغائبة عن الوعي، يواصل أشقائي طرح السؤال نفسه.. ماذا حدث؟ لكنني لم أكن قادرةً على قول شيء، فقط سؤالٌ واحدٌ راح يتردد بداخلي.. لماذا يحدث لي كل هذا؟ هناك شيءٌ خاطئٌ بالتأكيد، لم يكن هناك وقتٌ للحزن فقد تدخّل أشقائي حتى لا تتكرر تجربة إلقاء القبض عليّ، سحبوا هاتفي لمدة شهرين وأبقوني في المنزل، فما كان منّي إلا أن واصلت صمتي، وحاولت استعادة ما بقي من حياتي.

   قبل وفاة أمي بشهورٍ كنتُ على وشك إخبارها عن هذا الشاب الذي يريد الزواج منّي، أعرفه جيدًا على مدار ثلاثة سنوات، لكن ظروف مرضها لم تُعطني الفرصة، ثم أتت ظروف وفاتها وما تبِعَ ذلك لتحول بيننا، لتأتي ٣ شهور لم يعلم عني خلالها شيء، عندها أمسكت بهاتفي، وفتحت صفحتي الشخصية عبر موقع فيسبوك مرةً أخرى، وبحثت عن اسمه في قائمة الأصدقاء؛ كي أبدأ مُحادثةً انتظرتها طويلًا، وخشيتها كثيرًا -أيضًا-.

لم أكن مستعدةً لأقول له ما جرى بخلاف أحداث وفاة أمي، فمن قبل كان يُلحّ لمعرفة سبب الاختفاء، لم يُعجبه إصراري على الصمت، حيث اتخذ موقفًا عدائيًا وغاضبًا جدًا تجاهي، فالتمستُ له العذر، ثم حاولتُ تهدأته، لكن شيئًا ما بيننا لم يعد كما كان، وقد تحققتُ من هذا أكثر عندما جاء لخطبتي، لم يكن هو الشخص الذي عرفته منذ ٣ سنوات، لكنني قدرت أنه أمرٌ مؤقتٌ، كما ارتأيتُ كذلك ضرورة إخباره بأمر مرضي، خاصةً وأني كنتُ قد تيقنت حينها من أمر إصابتي به، وإن لم أكن قد بدأت العلاج منه بعد.


“ربما القادم أفضل مما مضى”  قلتها في نفسي أثناء انهماكي في ترتيبات الخطبة، “كل شيءٍ قسمة ونصيب”، لم أستوعب مكالمته التلفونية المُقتضبة التي جاءتني فجأة، لكنه أكـّد لي بنبرةٍ حادةٍ لم أسمعها من قبل أنني تغيرتُ كثيرًا، وأنني لستُ الإنسانة التي عرفها فيما مضى، ثم قال: اعتذري لإخوتك.
“فراقٌ جديدٌ لا غير”  تمالكت نفسي ثُم أخبرته: هاتفهم واعتذر لهم بشكلٍ رسميّ، لن يتصل بهم، وسوف يظلّ الأمرُ مُعلقًا حتى نحله معًا كما اعتدنا -هكذا حدّثتُ نفسي-، لكنه اتّصل بهم مُباشرةً وأنهى الأمر.
حاولت التركيز في عملي كمُدرّسة حتى أنسى ما حدث، لكن وصلتني رسالةٌ من الإدارة تقول: نرجو تقديم الاستقالة بذوقٍ وهُدوء، وذلك في الأغلب بسبب حادثة القبض عليّ؛ ففعلتُ ما أرادوا ..


عاودتني حالة الصمت والغياب عن مُحيطي مُجددًا، لكن هذه المرة لم أكن قادرةً على مُجاراة أيّ حديث، أو حتّى الرد، كنتُ في اللامكان، إخوتي التمسوا لي العذر، ودفعوني إلى أن أبدأ العلاج، بتُّ إنسانة أخرى لا أعرفها، أنا التي عادةً لا أبكي بسهولة، صرت أبكي بسببٍ وبدون سببٍ، تائهة طوال الوقت، ليس لديّ تركيزٌ أو حتّى ذاكرة، شعرتُ بعدها كأن عقلي غادرني، أو ربما الذكريات جميعها إلا ذكرى واحدة ظلت تطاردني كالشيطان، وهي عن ذلك الاعتداء الجنسي تحديدًا، وصمة العار التي أحملها على جبيني، ولا أحبّ أن أخوض في تفاصيلها، وهي كل ما لدي في عقلي الذي صار فارغًا الآن.

لم يكف إخوتي عن سؤالي عن ما جرى لي وقتها، لكنني لم أقل لهم شيئًا قطّ، ما كانت الإجابة سوف تنفع أيًّا منّا، كانت الأدوية ثقيلةً على قلبي وعلى جسدي، تدهورت حالتي النفسية أكثر خلال العلاج، صرت فظّةً للغاية، وعصبيةً وعدائيّة، قد أنام يوم الخميس فلا استيقظ إلا يوم السبت التالي، دخلت في مرحلةٍ أكثر قسوة، بدأت أشعر بأن عقلي يُغادرني، ثم بدأت أنسى كثيرًا؛ أنسى أمورًا لا يمكن نسيانها: أنسى الطعام فيحترق، أنسى ارتداء الحجاب حين أخرج الشارع، أنسى المفتاح في الشقة وأغلق الباب لأقف حائرةً قُبالته.
ظننتُ أنها أعراضٌ جانبيةٌ من العلاج، لكن الطبيب أكد لي أن الأدوية الموصوفة لا تُسبب الأعراض المذكورة، ونصحني بالتوجه إلى طبيبٍ نفسيّ، وبالفعل ذهبت على مضضٍ، كان هذا هو أول طبيبٍ نفسيٍّ أراه في حياتي.
والحقّ أنني قاومته وأخفيت عنه كثيرًا من التفاصيل، بل رحتُ أعارضُ أيّ شيءٍ يقوله، حتى توقفت تمامًا عن زيارته، وقررتُ أنني لستُ بحاجةٍ إلى علاج نفسي ولسان حالي: “تلك فكرةٌ فاشلة” ..
قضيتُ شهرًا في منزلي دون جلساتٍ أو علاج، تدهورت حالتي خلالها، ورحت أنسى أمورًا أكثر، أبكي فتراتٍ أطول، أغمض عينيّ، وأصمت ولا أحرك ساكنًا تقريبًا خلال اليوم، سمعت عبارة: ربما المشكلة في ذلك الطبيب، ماذا عن طبيبٍ آخر؟! .. قالها لي شخصٌ أعرفه وأثق به، كان ذلك في سياق حديثٍ عامرٍ باللطف والدعم من جانبه، علمتُ بعدها أن ذلك الشخص يُحبني.
تقبلْتُ طبيبي الجديد، كانَ متفهمًا، هادئًا، يتدرجُ معي شيئًا فشيئًا، اعتمدَ معي كلًّا منَ العلاجِ الفرديِّ والجماعيِّ، ذلكَ الأخيرُ ساعدَنِي جدًّا، كنتُ أرى في المجموعاتِ التي أجلسُ داخلَها أناسًا يتغيرونَ إلى الأفضلِ، يشبهونَنِي، كانَتْ تلكَ أولُ خُطوةٍ في علاجِي، وبدأْتُ في التحسنِ بالفعلِ، عدْتُ إلى العملِ بالتقديمِ في مدرسةٍ جديدةٍ، وقُبلْتُ بها، ورحْتُ أعملُ لأوقاتٍ طويلةٍ، وقتَها.. شعرْتُ بأنني أفضلُ.

كما يمكنك الاطلاع على:

  1. اضطراب نتف الشعر
  2. اضطراب الشخصية العدائية
  3. الدورة الشهرية واضطراباتها

تعليقات